الحُرِّيـَّة
الحُرِّيـَّة أعذب
وأقدس قيم الإنسان، ومن أجلها قامت الحروب والثورات على مرِّ التاريخ والزمان.
حرِّية
الإنسان وحقه في الحياة الحرة الآمنة والكريمة، حياة في ظلِّ نظام سياسي واجتماعي
عادل يحترم إنسانية الإنسان ويتعامل معه كعقل وفكر وروح، فالخالق العظيم خلق الإنسان
وكرمه على باقي مخلوقاته.
والحرية
ليست مجرَّد كلمة يتناولها الجميع بدون أن تترجم إلى إحساس إنساني بقيم هذه الكلمة
العظيمة. فمنذ وجود الإنسان على الأرض وظهور المجتمعات البشرية وما يحدث داخلها من
صراعات ونزاعات تصادر حريات الآخرين على حساب حريات يصبح الإنسان فيها هو سلعة
وحيدة بخسة الثمن حيث تهدر كرامته وإنسانيته لأجل رغيف من الخبز يسكت به جوعه أو
قطعة ثياب رثَّة يستر بها عريه. منذ وجود الإنسان والحرية تأخذ حيِّزًا كبيرًا
ومساحات شاسعة من تفكير وقلق العقل البشري واهتماماته، سواءً على مستوى القانون أو
المجتمع أو الفكر إلى آخر المجالات التي يمكن أن يصل مفهوم الحرية إليها سواء كان
التفاعل والتواصل الإنساني بين الفرد وبين المجتمع وعيًا أو ممارسة جماعية. الشاعر
الإسباني لوركا يخاطب حبيبته والتى هي رمز لبلاده التي عبثت بها الدكتاتورية زمنًا
طويلاً:
ما
الإنسان دون حرية يا ماريانا...
قولي لي: كيف أستطيع أن أحبك إذا لم أكن حرًّا؟
كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟
قولي لي: كيف أستطيع أن أحبك إذا لم أكن حرًّا؟
كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟
لا أجد
أبياتًا واضحة المعالم والأبعاد مثل هذه. بقدر ما تكون حرًّا تستطيع أن تمنح
الآخرين حبًّا وعطاء، وبقدر ما تكون مقيَّدًا ومتشرنقًا على ذاتك تفكر فيها باستغراق
لن تستطيع أن تمنح شيئًا للذات الأخرى سواء كانت إنسانًا أو وطنًا أو مجتمعًا...
الاختلاف
في الآراء والمعتقدات يعد من نواميس الطبيعة والفطرة، لأن كلَّ رأي يعبِّر
بالضرورة عن قناعة ورؤية للواقع المعاش، ويجسِّد فكره وانعكاساته الإنسانية ووجهة
نظر يبتكرها العقل من خلال تجارب وإرهاصات يومية وتواصل مستمر في إطار علاقات
إنسانية واجتماعية تجمع بين البشر جميعًا.
بكل
تأكيد، ما أعظم هواء الحرِّية ونسيمها العذب، عندما يقول الإنسان ما يشاء ويكتب ما
يريد، ليخرج كل ما يختلج في أعماق نفسه، ويقذف به إلى ضوء الشمس، لكن دون أن يكون
ذلك على حساب الغير، ودون أن يمس كرامتهم أو يجرح مشاعرهم.
إذا ما
رجعنا إلى تاريخ الإنسانية، نجد أن الحرِّية لم تكن أبدًا قيمة مطلقة، بل على
العكس هي قيمة نسبية إذا ما أخذنا بالاعتبار مقتضيات الحياة الاجتماعية، وكانت
القيود تارة خفيفة لا تكاد تلاحظ وطورًا تكبل حرية البشر إلى درجة الاضمحلال، وذلك
يرجع إلى طبيعة الأنظمة التي سادت الأمم، وما تبعها من وضع للقوانين والتشريعات
التي حكمت تلك الأمم.
الحرية
تعني الحكمة في ممارسة حق طبيعي مقدس وفق معايير محددة تخدم البشر وتسمو بالمجتمع.
ذلك أنَّ ثمرة الازدهار والتطور تعود إلى تناطح الأفكار ومساحات الحرية الشاسعة
التي يتمتع بها رجال الفكر والعلم والدين.
يقول ابن
خلدون: كلما تقدَّمت الأمم واحتاج الناس إلى التكامل والتعاون، وهم محتاجون لذلك
لأن الإنسان كائن اجتماعي ومدني بطبعه، كانت الحرِّية مطمحًا منشودًا وقيمة
إنسانية وركيزة اجتماعية يتعلق بها الإنسان، لكي تستقيم أموره؛ وكلما أوغل في
الحضارة ازداد تعلُّقه بها، ووضع لها الضوابط والقوانين المنظمة والتي تحرس كيانه،
وتوفِّر له الاستفادة منها، واستثمار مواهبه في رحابها. وكلَّما أوغلت البشرية في
البداوة، وابتعدت عن الحياة المدنية، وكانت خالية من المعارف والعلوم، كانت بعيدة
عن الحرية، وما تتطلَّبه من مسؤوليات، بحيث كلَّما أوغلت الأمة في البداوة كانت
أبعد ما تكون عن الحرِّية ومكاسبها، وكلما تقدَّمت في الحضارة ازدادت ولوجًا في
عالم الحرِّية.
ما هو
أسوأ من العيش في أجواء مظلمة يسود فيها الجهل والقمع والتعتيم والإرهاب الفكري هو
العبث بمفهوم الحرية وتحويلها إلى فيروس عجيب ومدمر.
وقد كانت
المجتمعات البدائية خالية الذهن من مفهوم الحرِّية لعدم ميلها إلى الاستقرار
والتعاون فيما بينها، والخضوع إلى النظام وعدم الشعور بالمسؤولية، وليس لها ما
يجبرها على التقَّيد بأي قيد أخلاقي وإنساني. فإذا انسلخت من حريتها كان الجهل
والظلام، وكان عالم الفوضى والاستبداد، وما يتميَّز به من انحلال وتمرُّد على
العقل والجنوح إلى تحكيم العاطفة التي لايحدها حدٌّ، ولا يثنيها تفكير، فتسلب
الأمة من إرادتها، وتنهار عزيمتها، ليسودها العنف وقانون الغاب، فهي إلى التوحش
أقرب. ونحن إذا استقرينا التاريخ وحياة المجتمعات على مرِّ العصور، نجد أن هناك
دورة منتظمة وقانونًا ثابتًا هو أن الحياة الإنسانية غير مستقرَّة على نمط واحد من
الحياة، وهناك تداول مستمر على حياة الشعوب والأمم في حركة جدلية بين الحرِّية
ونقيضها، تشكَّلت عبر العصور بأشكال متعدِّدة، لكننا لو دققنا النظر فيها وجدناها
ترجع إلى معنى واحد لمفهومي الحرية ونقيضها.
أما
نيتشه فإنه يربط الحرية بفكرة الوعي بالمصير "ضرورة وجودية" لأنه مرتبط
بالحرية، فالحرية لا تطابق المعقول، بل الوعي بالمصير. فللحرية حدود هي بعينها
شروطها. ولكي نحقق الحرية لابد أن نعي أنَّ الضرورة مرتبطة بالزمان؛ فالحرية
الإنسانية ليست حرية مطلقة، بل تمر بمرحلة من الصراع والتناقض حتى تصل إلى مرحلة
الوجود الضروري، التي فيها يصبح اختيارها لذاتها مجرد تعبير زمني عن حقيقتها
الأزلية.
لا سبيل
إلى السعادة في الحياة إلا إذا عاش الإنسان فيها حرًّا مطلقًا، يسيطر على ذاته
ووجدانه وفكره.
يقول
الشاعر أحمد مطر:
أعطوني
ذاتي كي أفني ذاتي،
ردوا لي بعض الشخصية،
كيف تفور النار بصدري وأنا أشكو البردا،
كيف سيومض برق الثأر بروحي مادمتم تخشون الرعدا،
كيف أغني وأنا مشنوق أتدلى من تحت حبالي الصوتية،
كي أفهم معنى الحرية،
وأموت فداء الحرية،
أعطوني بعض الحرية.
ردوا لي بعض الشخصية،
كيف تفور النار بصدري وأنا أشكو البردا،
كيف سيومض برق الثأر بروحي مادمتم تخشون الرعدا،
كيف أغني وأنا مشنوق أتدلى من تحت حبالي الصوتية،
كي أفهم معنى الحرية،
وأموت فداء الحرية،
أعطوني بعض الحرية.
ليست
الحرية في تاريخ الإنسان حدثًا جديدًا، أو طارئًا غريبًا؛ وإنما هي فطرته التي فطر
عليها مذ كان وحشًا يتسلق الصخور، ويتعلق بأغصان الأشجار.
نتشدق
بالحرية عندما نسخر من الآخرين وعندما نسفه آراءهم، ولا نتردد في أن ننعتهم ببعض
ما تفضلت به قواميس النعت والسب تحت مسمى الحرية. ولا بأس في أن تكون حريتنا هي
سلب حرية الآخرين وعقولهم ومعتقداتهم وإهانة كينونتهم تحت مسمى الحرية.
محال أن
نعبث بمفهوم الحرية. ومحال أن نرضى بهذا النمط العفن منها.
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء